مقالات
الجمعة 01 يونيو 2018 08:39 مساءً

ذكرياتي مع الرفيق الفقيد عبدالرحمن حسن شجاع الدين رحمه الله

عبدالرحمن أحمد غالب الجبلي

تعود ذكرياتي مع الرفيق والصديق العزيز عبدالرحمن شجاع إلى ما قبل حوالي 56 سنة . وذلك عندما قدمت إلى تعز قادماً من عدن في شهر مارس 1963م. أي بعد قيام ثورة 26 سبتمبر بحوالي 6 أشهر . تلك الثورة التي ألهبت مشاعر الجماهير اليمنية في الداخل والخارج وأعادت لهم الثقة والأمل في الحياة التي وأدها الأئمة، وجعلتهم يتشردون في جميع أصقاع الأرض. بحثاً عن لقمة العيش التي كانت عزيزة في مملكة الإمام.

وتأتي في المقدمة مدينة عدن المنفذ الوحيد الذي كان يلجأ إليه معظم اليمنيين طلباً للقمة العيش. حيث توجد بها بعض فرص العمل التي كان يتيحها  لهم النشاط الحيوي لمينائها ، الذي كان يعتبر الميناء الثاني بعد ميناء نيويورك . كما كانت هي المركز التجاري الأول لليمن وللكثير من  دول المنطقة المجاورة لها.

وبفضل ذلك، كان هناك تجمع كبير لليمنيين القادمين من جميع أنحاء اليمن. مما جعل حركة الأحرار اليمنيين المناهضين للحكم الإمامي تتخذ منها مكاناً لمعارضة ذلك النظام المتخلف. مستفيدة من الحرية النسبية المتاحة في مستعمرة عدن.

ولذلك فما أن  سمع الأحرار اليمنيون بقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر،  التي أسقطت النظام الإمامي واستبدلته بالنظام الجمهوري، حتى هبوا جماعة وفرادا وتركوا أعمالهم وغادروا عدن للإلتحاق بالحرس الوطني للدفاع عن تلك الثورة الوليدة. التي تكالبت عليها كل القوى الرجعية والإستعمارية في المنطقة. وقد كان في مقدمة المغادرين أعضاء المنظمات النقابية والحزبية التي كانت تنشط في عدن.

وفي ظل ذلك الحماس المنقطع النظير، طرح علينا في منظمة حزب البعث العربي الإشتراكي في عدن الصغرى، التي كنت قد انضميت إليها قبل بضع سنوات ، استطلاع عن من يرغب في أن ينتقل للعمل في الشمال. فأبديت استعدادي لذلك. وعندما سئلت ما الذي تريد أن تعمله هناك، قلت لهم سوف أكون جندياً للدفاع عن الثورة. ولكنهم قالوا لي ستكون جندياً ولكن في مكان آخر أي في تعز. حيث سيكون في استقبالك هناك الرفيق عبدالرحمن شجاع الدين وسوف تتولون معاً الإشراف على النشاط الحزبي هناك. ثم أعطوني عنوان عمل الرفيق عبد الرحمن.

وما هي إلا بضعة أيام حتى رتبت أموري وقدمت إجازة من عملي في مصافي الزيت البريطانية ، التي كانت هي الإجازة الأخيرة. ثم سافرت إلى تعز ليكون في إستقبالي هناك الرفيق عبدالرحمن شجاع، الذي لم أكن أعرفه من قبل، في مكتبه المتواضع ( أشبه ما يكون بالدكان ) أمام قصر العرضي الذي كان يطل منه الإمام للإشراف على إعدام الأحرار في ميدان الشهداء الذي يبعد عنه بضعة أمتار. وقد كان بجانب الرفيق عبدالرحمن ، الرفيق أحمد عبدالرحمن شجاع الدين, طيب الله ثراه. الذي كان قد قدم من السعودية حيث كان يعمل هناك مطوفاً هو وصديق عمره عبدالرحمن شجاع. قبل أن ينتقل  عبد الرحمن للدراسة في مصر. ثم قدم إلى تعز قبيل قيام ثورة سبتمبر بفترة وجيزة. حيث شارك في المظاهرات التي قامت  في تعز تأييدا للثورة . حيث كانت الجماهير قد هبت بشكل تلقائي وعفوي بالتظاهر في جميع المدن اليمنية تأييدا للثورة والجمهورية ومحاصرة بيوت بعض  رموز ذلك النظام العتيق . وبعد قيام الثورة عين مديراً لمكتب الثقافة والإعلام، كما أعتقد، الذي كان مقره في المكان المشار إليه سابقاً.

وبعد لقاء قصير في ذلك المكتب تحركنا ثلاثتنا، أنا والرفيق عبدالرحمن والرفيق أحمد عبدالرحمن شجاع ، إلى الدار الذي كان يسكنه في حارة إسحاق سفال وادي المدام أمام بيت العقيد محمد عبد الولي نعمان. وما لهذا الدار من شهرة وتاريخ ، سوف نتحدث عنه بشئ من التفصيل. لكن قبل ذلك لا أنسى أن الرفيق عبدالرحمن أثناء طريقنا إلى ذلك الدار، كان قد أشترى شئا من الخضار واللحم ليقوم بطبخها هو بنفسه. حيث كانت لديه خبرة في الطبخ، لأنه كان يعيش أعزباً لم يتزوج بعد .ولم يكن قد استقدم أمه الفاضلة لتعيش معه كما حدث فيما بعد. ولا ننسى لما لهذه الأم العظيمة من فضل علينا جميعاً أثناء بقائنا في ذلك الدار. حيث أكلنا من يدها الكثير من الوجبات اللذيذة التي لم نكن نعرفها من قبل  نحن القادمين من عدن.

دار البعث:

موقع هذا الدار كما أسلفنا، ويتكون من ثلاثة أدوار. الدور الأول كان مصمماً لإيواء المواشي بما يسمى في اليمن بالسفل، بتشديد السين وكسر الفاء، والدورين الثاني والثالث فيهما غرف للسكن حيث كان المرحوم يستقل بالدور الثالث. وكنا نتقاسم إيجاره البالغ ثلاثين ريالاً.

لقد كان هذا الدار هو العنوان الذي كنا نستقبل فيه رفاقنا واصدقاءنا القادمين من مختلف مناطق اليمن، وبالأخص من عدن. حيث كانوا يمكثون معنا في هذا الدار لبضعة أيام أو أسابيع حتى يتمكنوا من ترتيب أمورهم. فمنهم من يلتحق بالجيش، ومنهم من يذهب في منحة دراسية إلى الخارج، ومنهم من يلتحق في بعض الأعمال.

ومن الرفاق والأصدقاء الذين قدموا من عدن ، علي محمد هاشم، درهم عبده نعمان، طارش مقبل(صديق) ، الدكتور محمد عبدالوهاب العريقي أحد مؤسسي الجهاز المركزي للإحصاء والتخطيط. الذي تحول فيما بعد إلى وزارة التخطيط .ثم تولى عدة مناصب في الكهرباء وغيرها فيما بعد. وقد كان لهذا الصديق قصة ظريفة. حيث كان قد قدم من الشمال إلى عدن وإلتحق للعمل في مصافي الزيت البريطانية بإسم مستعار(خالد). وقد عشت أنا وإياه بغرفة واحدة بالسكن التابع للشركة. ولما قامت الثورة، كشف لي عن سر ظل مخفيه طيلة الفترة التي قضيناها معاً. وهي أنه سبق وأن ذهب في منحة للإتحاد السوفيتي السابق. وعاد ليعمل في ميناء الحديدة هو  والمشير عبدالله السلال قبل أن يتفاجأ بأنه كان على رأس الثورة التي أطاح بالحكم الإمامي.

وبخصوص تسمية الدار بهذا الإسم (دار البعث)، فلقد كان يكفي أن عبدالرحمن شجاع كان يسكن فيه. حيث ارتبط إسم البعث بإسمه  لحيويتيه ونشاطه وعلاقاته الإجتماعية الواسعة.

وكان الكثير من أصدقائه وزملائه أثناء دراسته بالقاهرة، يأتون لزيارته في هذا الدار. ومنهم ممن أتذكرهم ، عبدالمجيد الزنداني، عبدالسلام كرمان، عبده محمد المخلافي ، والأديب المعروف أحمد قاسم دماج . وقد كان هذا الأخير ينتمي لحركة القوميين العرب. أما الثلاثة الأخرين فلقد كانوا ينتمون للإخوان المسلمين. ومع ذلك ، فلقد كانت علاقاته طيبة مع الجميع.

وبسبب هذه الشهرة، تم إعتقاله بتوجيه من المخابرات العربية ( المصرية) في 5 مارس 1965م، كما أورد ذلك القاضي عبدالرحمن الإرياني في مذكراته. وقد كان احتجازه في سجن الشبكة في تعز مع بعض الذين كانوا متواجدين في الدار أثناء المداهمة. ومنهم الأستاذ عبدالوهاب جحاف وكذلك صديقه الحميم الأستاذ والأديب المعروف مطهر بن علي الإرياني. الذي تم احتجازه عندما ذهب لزيارته في سجن الشبكة. ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد أن وجه القاضي عبدالرحمن الإرياني عضو المجلس الجمهوري آنذاك، رسالة شديدة اللهجة للرئيس السلال. وبموجبها  تم الإفراج عن الجميع ما عدا الرفيق عبدالرحمن الذي تأخر لبعض الوقت إرضاء للقيادة العربية( المصرية). لأنها كانت هي من وراء الأمر بالإعتقال(المصدر السابق).

ومما يذكر، بأنه كان يكفي لإعتقال أي شخص لمجرد أن يجدوا في حوزته   كتابا لأحد الكتاب البعثيين، وقد كانوا كثر في تلك المرحلة، أو أية مجلة من المجلات التي تؤيدهم.

وبسبب هذا الإرهاب كان البعض يتسلل خفية إلى الدور الأرضي من هذا الدار (السفل) ويضع فيه ما لديه من هذه الكتب ثم يذهب خلسة. وقد كان الرفيق شجاع يعلق على ذلك بشيء من النكتة بقوله  كثر الله خيرهم. هؤلاء أمينين يعيدون الأمانة إلى أهلها. ويقصد إلى الدار الذي كانوا يعتبرونه  مقرا للحزب .

هذا ما كان من شأن هذا الدار الذي أقترح أن تؤخذ له صورة وتنشر في الكتاب المراد إصداره عن المرحوم.

أما بخصوص نشاطاته الأخرى فسوف نأتي عليها فيما يلي:

النشاط الحزبي:

كان الرفيقين عبدالرحمن شجاع و مطهر علي الإرياني يمثلان الواجهة السياسية والاجتماعية للحزب. حيث كانا  يلتقيان مع بعض الشخصيات السياسية والاجتماعية لمناقشة وجهات النظر فيما يخص القضايا المطروحة على الساحة الوطنية .

وقد كان من أهم من كانوا يلتقون معهما  في بيت القاضي عبدالرحمن الإرياني,  الأديب المعروف المرحوم علي بن علي صبرة والمرحوم عبدالقادر سعيد، أحد مؤسسي حركة القوميين العرب في اليمن. الذي كان يتمتع بوعي متقدم للكثير من القضايا الوطنية والسياسية في تلك الفترة, التي كانت خلالها القوات العربية (المصرية) العاملة في اليمن وأجهزة مخابراتها وجميع الوسائل الإعلامية والفنية في الجمهورية العربية المتحدة تشن هجوماً غير مبرر على حزب البعث العربي الاشتراكي وقياداته مستغلة الخطابات التي كان يلقيها الرئيس جمال عبدالناصر والتي كان يخصص جزءاً كبيراً منها للهجوم على القيادات القومية للحزب. مما كان له الأثر الكبير على نشاط الحزب في صفوف الجماهير. حيث كان  لخطاباته   تأثير سحري على الجماهير العربية. متخطية الحدود والأنظمة. حيث كان يكفي أن يلقي خطابا  يهاجم فيه أي نظام من أنظمة الحكم العربية في شتى الأقطار، حتى يزعزع ذلك النظام ويحرك الجماهير ضده. ولذلك، فقد لجأت الكثير من هذه الأنظمة إلى مهادنة الرجل والتآمر عليه من الداخل. لأنه لم يكن لديه رؤية استراتيجية لحشد القوى القومية واليسارية على مستوى الوطن العربي،  لما له من تأييد جماهيري واسع. لإيجاد تغيير حقيقي في هذه البلدان يستطيع مقاومة كل المشاريع الاستعمارية والرجعية. حيث كان يكتفي بإثارة حماس الجماهير بخطاباته. وهو  في هذا لا يتحمل المسؤولية لوحده، بل تتحملها أيضاً جميع الحركات القومية واليسارية والإسلامية العاملة في الوطن العربي. التي كانت تولي الصرعات البينية فيما بينها الأولوية على حساب مشروع جامع يستطيع النهوض في الوطن العربي والوقوف ضد المشاريع الاستعمارية التي تستهدف الجميع. وكان من نتائج تلك السياسات الخاطئة هزيمة عام 1967م، التي ألحقتها إسرائيل بالأمة العربية وفي مقدمتها مصر. وهي هزيمة ارتاحت لها الكثير من الأنظمة العربية، إذا لم تكن قد ساندت إسرائيل وآزرتها بالمال وبالتنسيق المخابراتي. 

ومن هذا المنطلق كانت المخابرات المصرية في اليمن والأجهزة القمعية والإعلامية التابعة لها، توجه نشاطاتها ضد المنتقدين لسياستها وعلى رأسهم حزب البعث. مما أضعف كثيراً القوى الجمهورية التي تقف ضد الملكيين الذين تحركهم السعودية بذهبها وسلاحها وتمدهم بالخبراء الأجانب الذين جلبتهم من كل مكان. ومنهم إسرائيليون يحملون جوازات الدول الاستعمارية المشاركة في العدوان على اليمن.

و بالرغم من كل تلك الصعوبات لم يستسلم الحزب، بل استمر في نشاطه في صفوف الجماهير، و بالأخص في أوساط الطلاب الذين كان يسكن الكثير منهم في القسم الداخلي. وقد برز منهم نشطاء مميزون من أمثال المرحوم مدهش علي ناجي، الذي كان مدهشاً في نشاطاته كإسمه. والدكتور أحمد شجاع الدين والأستاذ حمود شجاع الدين والمرحوم أحمد سلام الحمادي وعبدالرحمن الشرعبي و قاسم علي أحمد الشرجبي وآخرون كثر لا يتسع المجال لذكر أسماءهم جميعا . وفي فترة لاحقة كان الدكتور قائد محمد طربوش و الأستاذ محمد علي بشر (مغترب في بريطانيا). ومن قطاع الطالبات أتذكر منهن المرحومة رمزية عباس الإرياني وأخريات لم أعد أتذكر أسماءهن.

لقد كان شارع 26 سبتمبر ومقهاية الأبي الشهيرة في هذا الشارع مكاناً لتجمع الشباب من مختلف التوجهات السياسية، مثلها مثل مطعم فلسطين و بوفيه التحرير في صنعاء.

لقد كان مشهداً رائعاً وأنت تشاهد كل إثنين من هؤلاء الشباب يمشون في هذا الشارع وهم منهمكون في الحديث. فهذا يحاول أن يقنع زميله بأفكار البعث وموضوع خلافاته مع عبدالناصر، وذاك يحاول أن يقنع زميله بالإنضمام إلى حركة القوميين العرب، إنطلاقاً من شعبية عبدالناصر. وآخرون يتحدثون عن الحركة الشوعية التي يقودها الاتحاد السوفيتي أو الصين الشعبية. وقد كانت المراكز الثقافية لهاتين الدولتين نشيطة في إقامة المحاضرات وتوزيع الخطابات لزعمائها والكتيبات التي تشيد بالتجارب الإشتراكية في هاتين الدولتين اللتين قدمت كل منهما الكثير من المشاريع والدعم للثورة اليمنية. ومع ذلك، فلم يكن بإستطاعة هؤلاء أن يكسبوا الكثير إلى صفوفهم بسبب التخلف الثقافي الذي كانت تعيشه اليمن والدعاية الممنهجة التي كانت تشنها عليهم أجهزة الإعلام الإستعمارية والرجعية العربية. جاعلة  من الدين وسيلتها الرئيسية في هذه الحملات. وكذلك البعثيون، فلقد كانت مهمتهم صعبة أمام شعبية عبدالناصر الجارفة. إلا أنهم كانوا أفضل حالاً من الماركسيين، الذين كانوا هم أيضاً منقسمين، على قلة عددهم، بين ماركسية الاتحاد السوفيتي والماركسية الماوية في الصين.

ومع كل ذلك، فإن ما كان يميز هذه المرحلة هو حماس الشباب لتلمس طريقهم إلى المستقبل، سواء كانوا مع هذا الحزب أو ذاك.

وبالنسبة للرفيقين العزيزين، رحمهما الله، عبدالرحمن شجاع الدين و مطهر علي الإرياني، فلقد أفسحا المجال للشباب وخاصة بعد أن توافد الكثيرون منهم للعمل في تعز. حيث كنت أنا مسؤولاً عن العمل الحزبي مع رفاق آخرين من القطاعين المدني والعسكري . ومنهم الرفاق قاسم عبده علي ، عبده سلام سعيد الشرجبي، عبدالكريم حمود المخلافي، عبدالرحمن مهيوب. ومن القطاع العسكري علي محمد هاشم والمرحوم محمد طربوش سلام. وفي مرحلة لاحقة، توقف الرفيقان عبد الرحمن شجاع الدين ومطهر الإرياني تدريجياً عن ممارسة النشاط التنظيمي حتى انقطعا نهائياً في عام 1969  ، كما أتذكر. ولكنهما ظلا أوفياء للمبادئ والقيم الوطنية التي كان ينادي بها الحزب. ولم ينجرا إلى الخلافات التي ظهرت مؤخراً بين مؤيدين للقيادة القومية بقيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار. وآخرون مؤيدون للجناح اليساري الذي كان يقوده صلاح جديد من سوريا وعلي صالح السعدي من العراق وآخرون. وذلك قبل أن يصبح هذا الخلاف خلافاً بين الدولتين في كل من سوريا والعراق الذي تحول فيما بعد إلى عداء غير مفهوم بين الدولتين. وبناءاً على ذلك أصبح بعض البعثيين يصطفون مع إحدى هاتين الدولتين كل حسب خياراته. أما غالبية التنظيم  في اليمن فلقد فكوا ارتباطهم مع التنظيم القومي المنقسم على ذلك  النحو، وشكلوا حزب الطليعة الشعبية. كما كانت قد سبقتهم إلى ذلك فرع حركة القوميين العرب في اليمن عندما أنشأوا  لهم حزبا مستقلا عن قيادة الحركة في بيروت. بإسم  الحزب الديمقراطي الثوري.

ونعود الآن للحديث عن نشاط الرفيق عبدالرحمن شجاع و رفاقه في المجال الثقافي والاجتماعي:

مدرسة الكفاح الليلية:

لم تفلح الحملات الإعلامية والأمنية التي كانت تُشن ضد الحزب، طالما وأنه كان هناك شباب طموحين لخدمة وطنهم من أمثال الرفيق عبدالرحمن شجاع. حيث  شعرنا بأن هناك حاجة لإنشاء مدرسة للطلاب تساعد المتأخرين منهم على  اللحاق بالمدارس الحكومية بما يتناسب مع أعمارهم. وكذلك اكتساب خبرة في اللغة والطباعة. فقمنا أنا وهو وصديق آخر إسمه طارش مقبل، رحمه الله، بإنشاء هذه المدرسة.  بمجهود ذاتي. تقاسمنا تكاليفها نحن الثلاثة. وهي لم تكن تكاليف كبيرة. حيث قمنا باستئجار دكان كبير في سوق الشنيني من التاجر علي صالح حراب. بمبلغ 25 ريالا شهرياً. كنا نسددها من الرسوم التي كان يدفعها الطلاب (ريالين بالشهر عن كل طالب). ثم أشترينا مقاعد خشبية وطاولات متواضعة من إحدى الورشات المحلية. كما اشترينا عددا من آلات الطباعة العربية والإنجليزية. ثم استغلينا طاقات الشباب من الرفاق والأصدقاء الذين كانوا متواجدين معنا. وهم:

1. عبدالرحمن شجاع الدين – كان يدرس الإجتماعيات.

2. الرفيق المرحوم عبدالواحد المخلافي – اللغة العربية.

3. الصديق محمد عبدالوهاب العريقي – اللغة الإنجليزية.

4. الصديق المرحوم طارش مقبل – الطباعة.

5. عبدالرحمن أحمد غالب – الرياضيات بالإضافة إلى إدارة المدرسة.

ولكن، فكما كنا نحن لم نستسلم، فكذلك كانت أجهزة المخابرات أيضاً لم تتوقف عن نشاطها ضد الحزب. حيث كان يكفي بأن يوجد شخص بعثي في أي عمل أو نشاط إجتماعي حتى يضعوا عليه خطاً أحمراً، ويدرجوه  في قائمة المراقبة. فما بالهم إذا كان مثل هذا الشخص هو عبدالرحمن شجاع الدين.

لذلك كان مخبروهم يترقبون الطلاب الخارجين من المدرسة ويفتشون دفاترهم وكتبهم لعلهم يجدون سبباً لإغلاق المدرسة. ولم يكتفوا بذلك، بل أنهم كانوا يحذرون الطلاب من البعثيين ويحثونهم على ترك المدرسة.

 وقد أثر هذا العمل على بعض الطلاب ، مما جعلهم يتركون المدرسة ويعزفون عن دفع الرسوم رغم تواضعها. مما أدى في نهاية المطاف إلى إغلاقها والاكتفاء بدكان صغير استمريت أنا أدرس فيه لوحدي لفترة من الوقت  حتى تم إغلاقها نهائياً.

مدرسة المهمشين (الأخدام):

لقد كانت هذه المدرسة أشبه ما تكون بصفوف محو الأمية، تبنتها منظمة الحزب بإقتراح من الرفيق عبدالرحمن شجاع. حيث قمنا باستئجار محل في باب موسى وتم تجميع عدد من المهمشين صغاراً وكباراً من الشوارع لجلبهم للدراسة في هذا المحل. وقد كان الرفاق عبدالرحمن شجاع وأحمد عبدالرحمن شجاع (أحد نشطاء الحزب المتحمسين في تلك الفترة) يقومون بأنفسهم بالتدريس في هذه المدرسة ، إن صح تسميتها بهذا الإسم. لا أتذكر كم إستمرت هذه المدرسة قبل أن يتم إغلاقها بسبب المضايقات وتراجع مرتاديها عن الحضور.

لكن الأهم من كل ذلك، كان الصدى الذي أحدثته في المجتمع المشبع بثقافة التمييز ضد هذه الفئة من المواطنين. والتي بسببها كان يضيع كل جهد لإنتشال هذه الشريحة من واقعها الذي تعيشه وحتى اليوم. حيث لا يزال الكثير منا عندما يداعب طفله أو يؤنبه ينعته(بالخادم).

لقد كانت صيحة مبكرة أطلقت بعد الثورة بأشهر قليلة في وجه المجتمع العنصري ضد هذه الفئة. حيث كان لها تأثير وصدى في الأوساط الإجتماعية والسياسية أكثر من أثرها في صفوف المهمشين أنفسهم. وهذا شيء إيجابي ولكنه بحاجة إلى متابعة من قبل النخب المثقفة في المجتمع. لأنه لا يمكن لهذه الفئة أن تخرج من واقعها ما لم يتم ذلك بمساعدة الدولة والمجتمع. كما تم في الجنوب في فترة لاحقة. حيث نالت هذه الفئة الكثير من الحقوق والمكتسبات التي فقدتها دفعة واحدة عند قيام دولة الوحدة، مع الأسف الشديد.

نادي الشباب الرياضي:

لقد كان لدينا عدد من الرفاق والأصدقاء الرياضيين ممن يتمتعون بالنشاط والحماس. ولذلك قمنا ثلاثُتنا : عبدالرحمن شجاع الدين و طارش مقبل و عبدالرحمن أحمد غالب بإنشاء هذا النادي الرياضي المتواضع بتمويل ذاتي من قبلنا نحن الثلاثة. حيث قمنا باستئجار محل في طريق العقبة المؤدية إلى المستشفى الجمهوري، مقابل مقهاية الإبي المشهورة. ثم أشترينا بعض الأدوات الرياضية ومستلزمات البوفية. ووفر لنا الأخ عبدالرحمن شجاع طاولة للعب التنس من وزارة الأشغال بسعر رمزي. وتشكل فريق رياضي للعب الكرة برئاسة المرحوم طارش مقبل. إلا أنه واجه محاربة شديدة رغم وجود لاعبين متميزين فيه. وذلك بسبب وجود بعض الرموز البعثية في النادي الذي يتبنى الفريق. ويأتي على رأسهم الرفيق عبدالرحمن شجاع. مما  اضطرنا في الأخير إلى إقفال هذا النادي وانضمام الكثير من رياضييه إلى نادي الصحة لممارسة هوايتهم في لعب الكرة. بعيداً عن مضايقة المخبرين.

هذا بعض ما أتذكره عن الرفيق المرحوم عبدالرحمن حسن محمد شجاع الدين. إلا أن أي حديث بهذه العُجالة عنه لا يمكن أن يفيه حقه. وهناك الكثير من رفاقه وأصدقائه سوف يتحدثون عن جوانب أخرى من حياته. لأن علاقاته كانت واسعة مع الآخرين من مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية. حيثُ أنه كان لا يتوانى عن تقديم المساعدة لأي شخص يحتاجها. بغض النظر عمن يكون هذا الشخص، وأي كانت ولاءاته السياسية. مما أكسبه حب كل من تعرف عليه أو تعامل معه.

وبالنسبة لي، فلقد انقطعت اتصالاتي المباشرة معه منذ أن عين مستشارا اقتصاديا في تونس ثم في القاهرة التي ظل مقيماً فيها منذ ذلك الحين وحتى وفاته، إلا من مرات محدودة عندما كان يأتي من وقت إلى آخر في زيارات متقطعة إلى صنعاء.

لكن، وقبل أن أنهي حديثي  هذا عن الرفيق عبد الرحمن، أود أن أُشير إلى أنه كان قد تعرض لحادث مروري بمنطقة هجدة أثناء عمله في شركة المخا الزراعية. حيث تعرضت إحدى يديه لكسور مضاعفة صُعب تجبيرها. ولذلك، قرر الجراحون في المستشفى الجمهوري الذي كان يرقد فيه، بترها. لولا تدخل الأخ محسن العيني الذي كان على معرفة به أثناء دراسته بالقاهرة، فتوسط في نقله للعلاج في القاهرة. وبهذا سلمت يده من البتر، وعاد كما كان شعلة من النشاط والحركة. إلى أن أصيب بجلطة دماغية منذ عدة سنوات أفقدته ذلك النشاط الذي تعود عليه. وأمضى بقية حياته في شيء من الإنكفاء على الذات إلى أن توفاه الله في 12 مارس 2018م.

وأخيراً، لا ندري هل نبكيه أم نبكي  الوطن الذي كان يحلم به، كما كنا نحن جميعاً نحلم به. والذي يتعرض اليوم لحروب داخلية وخارجية وعداوات بين أبنائه لم يسبق لها مثيل ولا ندري إلى أين ستصل بنا الأمور.

الرحمة والخلود لرفيقنا الغالي ولكل من بذل شيئا من جهده لخدمة هذا الوطن، أو حتى من حلم بوطن يمني موحد، مستقر وآمن. يعيش فيه الجميع متساوين في الحقوق والواجبات.

جميع الحقوق محفوظة لـ [وطن نيوز] ©2024
تطوير واستضافة
YOU for information technology