"علي عزت بيجوفيتش" سيرة لابد أن تقرأ
ليست مذكرات عادية كأي كتاب يحوي بين دفتيه مذكرات شخصية مهما كان حجمها وموقعها.. ذلك أن الدور الاستثنائي الذي قام به المفكر الفيلسوف والرئيس المؤسس رجل السياسة والإدارة والفكر والقانون الراحل علي عزت بيجوفيتش (1925-2003) لم يكن شخصية عادية.. بل كان شخصية استثنائية بكل ما للكلمة من معنى..
سواء فيما امتاز به من ثقافة واطلاع ورجاحة عقل وقدرة على البحث والاستنتاج والاستقراء أو في واقعه المحيط حين دفعت به الظروف لقيادة بلده(البوسنة والهرسك) وهي في مرحلة الانتقال من مكون فيدرالي ضمن الاتحاد اليوغسلافي إلى جمهورية مستقلة..
دفعت ثمن الانتقال حربا دموية تخللتها فصول ملتهبة أشعلتها ترسانة الأسلحة الصربية والحقد الأعمى.
لم تقتصر صفحات المذكرات الخاصة بالرئيس بيجوفيتش التي تزيد عن 700 صفحة، على سيرته الذاتية،وإن كانت موضوعها الأبرز،لكنها حملت تاريخ بلد وحكت نضال شعب قرر أن يدافع عن نفسه في وجه قوة غاشمة وحصار دولي جائر وصمت عالمي متواطئ..
تتحدث المذكرات التي صدرت في العام 2003 وهو العام نفسه الذي غادر فيه بيجوفيتش الحياة،وضع البوسنة والهرسك عبر عصور مختلفة بين الدولة الإسلامية العثمانية ثم امبراطورية النمسا وصولا إلى الاتحاد اليوغسلافي.
الكتاب صدر عن دار الفكر بداية العام 2004 مترجما إلى اللغة العربية من عبدالله الشناق ورامي جرادات، بعد ترجمته من البوسنية إلى الإنجليزية من قبل صابر سال الدين وياسمين عزت بيجوفيتش حفيدة المؤلف،حمل عنوان (علي عزت بيجوفيتش.. سيرة ذاتية وأسئلة لا مفر منها).
بيجوفيتش المولود بين الحربين العالميتين يسلط الضوء في كتابه/مذكراته على واقع بلده إبان الحربين قبل أن تصبح إحدى مكونات يوغسلافيا الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية سنة 1945 حتى انهار سنة 1990.
عاصر بيجوفيتش الحرب الثانية التي اندلعت وهو في السنة الرابعة عشر من عمره،بينما شهد الحرب الأكثر دموية على بلاده وهو في ستينيات عمره حتى توقفت في العام 1995 وهو يدلف إلى العام الحادي والسبعين.
دخل السجن مرتين،الأولى عام 1947 واستمرت 3 سنوات،والثانية كانت بين عامي 1983 و 1988،وكلاهما كانت بسبب أفكاره المناهضة للحكم الذي كان ينتهج سياسة قمع الرأي الآخر إبان العهد الشيوعي.. وتهمته الأبرز السعي لتأسيس دولة إسلامية..بناء على سلسلة مقالات كتبها بيجوفيتش حول قضايا الأمة الإسلامية عامة ورؤيته للنهوض بواقعها بالأخذ بالسنن الكونية التي لا تحابي أحد.
يحضر بيجوفيتش في صفحات كتابه بالقدر الذي كان حاضرا في صناعة الحدث دون أن يتجاهل أو يدعي أو يتقمص دورا آخر او شخصا آخر.. لم يكن غير سخصه الذي أسس حزبا سياسيا حصد الفوز في أول انتخابات ليتسلم مقاليد الحكم ويقود شعبه في ملحمة تاريخية خرج منها منتصرا بأخلاقه وإرادته وقراره في الحرية والاستقلال.
كانت اتفاقية السلام التي وقعها بيجوفيتش غير مثالية من وجهة نظره وجميع البوسنيين لكنها كانت أخف وطأة من حرب دامية.. كانت الاتفاقية ظالمة لكن ابقاء البوسنة تحت وطأة الحرب أكثر ظلما وعدوانية.
لم يقف المجتمع الدولي الموقف المسؤول ازاء حرب الإبادة التي شنها الصرب على البوسنة،لكن بيجوفيتش وهو يمثل شعبه وبلاده لم يدر ظهره للمجتمع الدولي،ولكنه ظل يخاطب الضمير الحي في هذا العالم المحكوم بلغة المصالح ومعايير القوة والمنفعة.
كما أن التفاعل الضعيف من الدول العربية والإسلامية مع قضية البوسنة لم يجده مبررا لسلخ القضية عن جذورها الدينية والتاريخية،وظل يتواصل مع زعماء العالم الإسلامي شارحا وضع بلاده وموضحا موقف حكومته،بل أنه في لقاء له مع ممثلي الدول الكبرى خاطبهم بالقول: إنكم بموقفكم السلبي من تدمير البوسنة وقتل شعبها تستفزون مليار مسلم وهذا ليس في صالح الأمن الدولي..
إن كان بيجوفيتش ظهر في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب) بدا مفكرا رائدا وعالما جليلا.. وفي كتابه (هروبي إلى الحرية) ظهر مناضلا يدافع عن الحقوق والحريات..
وفي كتاب (الإعلان الإسلامي) تجلى مصلحا وقائدا على مستوى عال من الحنكة والخبرة في كشف الداء واكتشاف الدواء؛ فهو في كتاب مذكراته تجلى جامعا كل ذلك في نسيج واحد.. اسمه "علي عزت بيجوفيتش".